المادة    
قال المؤلف رحمه الله: (وما أبعد قول من قال: إن معنى قوله: ( فليس منا ) أي: فليس مثلنا)؛ لأن من المرجئة من قال ذلك كما روى هذا الخلال في كتاب الإيمان )، فـالخلال رحمه الله في كتابه الجامع المسند روى كل ما نقل عن الإمام أحمد بالسند، وفي جملة ذلك كتاب الإيمان للإمام أحمد ، فكتاب الإيمان للإمام أحمد هو ضمن كتاب الجامع للخلال ، ولذلك فالإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان يسميه: الجامع ، و ابن تيمية أكثر من مرة يسميه: المسند ، وهما شيء واحد، وقد نقل عن الإمام أحمد إنكاره الشديد على من قيل له من المرجئة : ما تقولون في قوله صلى الله عليه وسلم: ( من غش فليس منا )؟ فأجابوا بأن المعنى: فليس مثلنا؛ لأن المرجئ يريد بهذا أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن الناس فيه سواء، فعلى هذا لا يكون معنى: ( من غش فليس منا ) أنه خارج من الدين، بل يعني: من غش فليس مثلنا، ويريدون نفي القول بزيادة الإيمان ونقصانه، والجواب على هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن نقول لمن قال هذا: لقد وقعت فيما فررت منه، أو ليس قولك: ليس مثلنا دليل على أنه أقل إيماناً؟
إذاً: هذا الذي فررتم منه من إثبات تفاضل الناس في الإيمان فقلتم: ليس مثلنا -أي: أقل منا- فيه خطأ كبير في المعنى، وقد نبه عليه الإمام أحمد رحمه الله، وهو أن معنى قولهم هذا أن من لم يغش يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان المعنى: من غش فليس مثلنا، فهل الذي لم يغش يكون مثلنا؟ أي: مثل خيار الصحابة من المهاجرين والأنصار؟ هذا فضلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فينال هذا الوصف بمجرد أنه لم يغش، فإذا غش لم يعد كذلك، فتأويل المرجئة للحديث تأويل شنيع للحديث، ولهذا أنكره الإمام أحمد رحمه الله إنكاراً شديداً.
والصحيح أن معنى قوله: ( من غش فليس منا ) أي: من غش، فليس سائراً على هدينا، ولا متمسكاً بأحكامنا وشرعنا، وليس متصفاً بصفات المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، والذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، والذين هم في صلاتهم خاشعون، وبمعنى آخر: الإيمان اسم ثناء ومدح، بل هو من أفضل أسماء الثناء والمدح، فالذي يستحق أن يثني به عليه وأن يمدح بأنه مؤمن هو من لم يأت بكبيرة، فمن فعل كبيرة خرج عن هذا الثناء وعن هذه الدرجة، وأصبح ممن يذم ويعاب على هذا هو، ولا نقول بأنه قد كفر، ولا نقول: إذا لم يغش فقد صار من المؤمنين، بل غاية ما في الأمر أنه بارتكابه للكبيرة أو مثلها لم يكن من المؤمنين الممدوحين في كتاب الله، لكن لم يزل عنه اسم الإسلام؛ لأنه لا يخرج من الملة والدين بارتكابه الكبيرة، ولكن ليس معنى هذا أن تشهد لرجل تعلم أنه ارتكب كبيرة بأنه مؤمن وقد وجدته يبيع الطعام ويغش؛ لأن من اتصف بهذه الصفات، فهو لم يتخلق بأخلاق المؤمنين، ولم يتصف بصفاتهم، ولم يتعامل بمعاملتهم، ولم يلتزم هديهم ونهجهم وأحكامهم، فهو بذلك ليس منهم.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.